بدعة المولد
فضيلة الشيخ العلامة/ محمد ناصر الدين الألباني
إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
· مَن يهده الله؛ فلا مضل له، ومَن يُضللْ؛ فلا هادي له.
· وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
· ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾.
· ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾.
· ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾.
· أما بعد؛ فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
· وبعد..
· فقد بدا لي أن أجعل كلمتي في هذه الليلة -بديل الدرس النظامي- حول موضوع احتفال كثير من المسلمين بالمولد النبوي؛ وذلك قيامًا بواجب التذكير، وتقديم النصح لعامة المسلمين؛ فإنه واجب من الواجبات كما هو معلوم عند الجميع.
· وقد جرى عرف المسلمين من بعد القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية على الاحتفال بولادة النبي صلى الله عليه وسلم، وبدأ الاحتفال بطريقة وانتهى اليوم إلى طريقة، وليس يهمني في هذه الكلمة الناحية التاريخية من المولد، وما جرى عليه من تطورات؛ إنما المهم من كلمتي هذه أن نعرف موقفنا الشرعي من هذه الاحتفالات قديمها وحديثها.
· فنحن -معشر أهل السنة- لا نحتفل احتفال الناس هؤلاء بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكننا نحتفل احتفالاً من نوع آخر، ومن البديهي أنني لا أريد الدندنة حول احتفالنا نحن معشر أهل السنة، وإنما ستكون كلمتي هذه حول احتفال الآخرين.
· فنحن نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بالدين كاملاً وافيًا تامًّا، والدين هو كل شيء يتدين به المسلم، ويتقرب به إلى الله عز وجل، وليس ثَمَّةَ دين إلا هذا، ولا يمكن أن يكون شيء ما من الدين إلا إذا جاء به نبينا صلوات الله وسلامه عليه.
· أما ما أحدثه الناس بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لا سيما بعد القرون الثلاثة المشهود لها بالخيريّة؛ فلا شك ولا ريب أنه من محدثات الأمور، وقد علمتم جميعًا حكم هذه المحدثات من افتتاحية دروسنا كلها؛ حيث نقول فيها كما سمعتم آنفًا: (خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار).
· ونحن وإياهم مجمعون على أن هذا الاحتفال أمرٌ حادث لم يكن في عهده صلى الله عليه وسلم، بل ولا في عهد القرون الثلاثة كما ذكرنا آنفًا، ومن البديهي أن النبي صلى الله عليه وسلم في حياته لم يكن ليحتفل بولادته؛ ذلك أن الاحتفال بولادة إنسان ما إنما هي طريقة نصرانية مسيحية لا يعرفها الإسلام مطلقًا، فمن باب أولى أن لا يعرف ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن عيسى نفسه -الذي يحتفل بميلاده المدَّعون اتباعَه- لم يحتفل بولادته، مع أنها ولادة خارقة للعادة، وإنما الاحتفال بولادة عيسى عليه السلام من البدع التي ابتدعها النصارى في دينهم، وهي كما قال عز وجل: ﴿ ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ﴾.
· فربنا عز وجل ما شَرَعَ هذه البدع التي اتخذها النصارى؛ ومنها الاحتفال بميلاد عيسى، وإنما ابتدعوها من عند أنفسهم؛ فلذلك إذا كان عيسى لم يحتفل بميلاده ومحمد صلى الله عليه وسلم -أيضًا- لم يحتفل بميلاده، والله عز وجل يقول: ﴿ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ﴾، فهذا من جملة اقتداء نبينا بعيسى عليهما الصلاة والسلام، وهو نبينا أيضًا، ولكن نبوته نُسِخَتْ ورُفعت بنبوّة خاتم الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهما.
· ولذلك فعيسى حينما ينـزل في آخر الزمان -كما جاء في الأحاديث الصحيحة المتواترة- إنما يحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
· فإذن؛ محمد صلى الله عليه وسلم لم يحتفل بميلاده، وهنا يقول بعض المبتلين بالاحتفال غير المشروع الذي نحن في صدد الكلام عليه: محمد صلى الله عليه وسلم لم يحتفل بولادته.
· نقول: ولم يحتفل بولادته عليه الصلاة السلام بعد وفاته أحبّ الخلق من الرجال إليه، وأحب الخلق من النساء إليه؛ ذلكما أبو بكر وابنته عائشة رضي الله عنهما، فما احتفلا بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك الصحابة جميعًا والتابعون وأتباعهم وهكذا.
· إذن؛ لا يصح لإنسانٍ -يخشى الله ويقف عند حدود الله ويتعظ بقول الله عز وجل: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾- أن يقول: الرسول ما احتفل؛ لأن هذا يتعلق بشخصه.
· نقول له: ولم يحتفل أحد من أصحابه به عليه الصلاة السلام، فمن الذي أحدث هذا الاحتفال بعد هؤلاء الرجال الذين هم أفضل الرجال ولن تلد النساء أمثالهم إطلاقًا؟!
· إن التابعين لم يحتفلون هذا الاحتفال أو ذاك، وإنما كان احتفالهم من النوع الذي سأشير إليه إشارة سريعة كما فعلت آنفًا، فهذا يكفي لأن يعرف المسلم أنّ القضية ليست قضيةَ عاطفة جانحة لا تعرف الحدود المشروعة، وإنما هو الاتباع والاستسلام لحكم الله عز وجل، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ﴾، فرسول الله ما احتفل؛ إذن نحن لا نحتفل.
· فإن قالوا: ما احتفل لشخصه.
· نقول: ما احتفل أصحابه أيضًا بشخصه من بعده، فأين تذهبون؟! كل الطرق مسدودة أمام الحجة البينة الواضحة التي لا تُفسح مجالاً مطلقًا للقول بحسْن هذه البدعة.
· وإن مما يبشر بالخير أن بعض الخطباء والوعّاظ بدؤوا يضطرون ليعترفوا بهذه الحقيقة، وهي أن الاحتفال بالمولد بدعة وليس من السنة، ولكنهم يحتاجون إلى شيء من الشجاعة العلميّة التي تتطلب الوقوف أمام عواطف الناس الذين عاشوا هذه القرون الطويلة وهم يحتفلون، فهؤلاء كأنهم يَجْبُنُون -أو يضعفون- أن يَصدعوا بالحق الذي اقتنعوا به. فتجد أحدهم يقول: صحيح أن هذا الاحتفال ليس من السنة، ولم يحتفل الرسول ولا الصحابة ولا السلف الصالح، ولكنّ الناس اعتادوا أن يَحتفلوا، ويبدو أن الخلاف فقهي!
· هكذا يُبرر القضية، ويقول: الخلاف شكليّ، لكن الحقيقة أنهم انتبهوا أخيرًا إلى أن هذا المولد خرج عن موضوع الاحتفال بولادة الرسول صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحيان؛ حيث يتطرف الخطباء أمورًا ليس لها علاقة بالاحتفال بولادة الرسول صلى الله عليه وسلم.
· وأذكر أمرًا مهمًّا جدًّا طالما غفل عنه جماهير المسلمين، حتى بعض إخواننا الذين يمشون معنا على الصراط المستقيم وهو الابتعاد عن التعبد إلى الله عز وجل بأيّ بدعة، فقد يَخفى عليهم أن أي بدعة يتعبد المسلم بها ربه عز وجل هي ليست من صغائر الأمور، ومن هنا نعتقد أن تقسيم البدعة إلى محرمة وإلى مكروهة يعني كراهة تنـزيهية، وهذا التقسيم لا أصل له في الشريعة الإسلامية، كيف وهو مُصادم مصادمة جلية للحديث الذي تسمعونه دائمًا وأبدًا: (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)؟!
· فليس هناك بدعة لا يستحق صاحبُها النار، ولو صح ذلك التقسيم؛ لكان الجواب: ليس كل بدعة يستحق صاحبها دخول النار، لم؟ لأن ذاك التقسيم يجعل البدعة المحرمة هي التي تؤهل صاحبها لدخول النار، والبدعة المكروهة تنزيهًا لا تؤهل صاحبها للنار، وإنما الأَوْلَى تركها والإعراض عنها. وهنا الشاهد من إشارتي السابقة التي لا ينتبه لها الكثير، والسر في هذا أن كل بدعة -كما قال عليه الصلاة والسلام- ضلالة، وأنه من باب التشريع في الشرع الذي ليس له حق التشريع إلا رب العالمين تبارك وتعالى، فإذا انتبهتم لهذه النقطة؛ عرفتم حينذاك لماذا أطلق عليه الصلاة والسلام على كل بدعة أنها في النار -أي: صاحبها-؛ ذلك أن المبتدع حينما يَشْرَعُ شيئًا من نفسه فكأنه جعل نفسه شريكًا مع ربه تبارك وتعالى، والله عز وجل يأمرنا أن نوحِّده في عبادته وفي تشريعه، فقال: ﴿ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾، أندادًا في كل شيء، ومن ذلك التشريع.
· وهنا يظهر الشباب المسلم الواعي المثقف الذي انفتح له الطريق إلى التعرف على الإسلام الصحيح من المفتاح لا إله إلا الله، والتوحيد يستلزم -كما بيَّن ذلك بعض العلماء قديمًا وشرحوا ذلك شرحًا بينًا، ثم تبعهم بعض الكتاب المعاصرين- أن يُفْرِدَ المسلم ربه عز وجل بالتشريع، ويَستلزم أن لا يَشْرَعَ أحد مع الله عز وجل أمرًا ما، سواء أكان صغيرًا أم كبيرًا جليلاً أم حقيرًا؛ لأن القضية ليست بالنظر إلى الحكم هو صغير أم كبير، وإنما إلى الدافع إلى هذا التشريع، فإن كان هذا التشريع صَدَرَ من الله؛ تَقَرَّبَنَا به إلى الله، وإن كان صدر من غير الله عز وجل؛ نَبَذْناه وشرعته نبذ النواة، ولا يجوز للمسلم أن يتقرب إلى الله عز وجل بشيء من ذلك، وأولى أنه لا يجوز للذي شَرَعَ ذلك أن يَشْرَعَه، وأن يستمر على ذلك وأن يستحسنه.
· هذا النوع من إفراد الله عز وجل بالتشريع هو الذي اصطلح عليه اليوم بعض الكتاب الإسلاميين بتسميته بـ "الحاكمية لله عز وجل وحده"، لكن مع الأسف الشديد أخذ شبابنا هذه الكلمة، وهي كلمة ليست مُبَيَّنَةً ولا مُفَصَّلَةً ولا تشتمل على كل شِرْعَةٍ أو كل أمر أُدْخِل في الإسلام وليس من الإسلام في شيء، أن هذا الذي أَدخَل البدعة قد شارك الله عز وجل في هذه الخصوصية، ولم يوحد الله -عز وجل- في تشريعه؛ ذلك أن السبب -فيما أعتقد- في عدم وضوح هذا المعنى الواسع لجملة أن "الحاكمية لله عز وجل" هو أن الذين كتبوا حول هذا الموضوع -أقولها مع الأسف الشديد- ما كتبوا ذلك إلا وهم قد نبّهوا على الضغوط الكافرة التي تأتي بهذه التشريعات، وهذه القوانين من بلاد الكفر والضلال. ولذلك فهم حينما دعوا المسلمين وحاضروا وكتبوا دائمًا وأبدًا حول هذه الكلمة الحقّة، وهي أنّ الحاكميّة لله عز وجل، أقول: كان كلامهم دائمًا ينصب ويدور حول رفض هذه القوانين الأجنبية التي تَرِدُ إلينا من بلاد الكفر، كما قلنا: لأن ذلك إدخال في الشرع ما لم يَشْرَعْه الله عز وجل.
· هذا كلام حق لا شك ولا ريب، ولكنّ قصدي أن أَلفت نظركم أن هذه القاعدة المهمة -وهي أن الحاكمية لله عز وجل- لا تنحصر فقط برفض هذه القوانين التي تَرِدُ إلينا من بلاد الكفر، بل تشمل هذه الكلمة كل شيء دخل في الإسلام سواء أكان وافدًا إلينا أو نابعًا منا، ما دام أنه ليس من الإسلام.
· فهذه النقطة بالذات هي التي يجب أن نتنبه لها، وأن لا نتحمس فقط لجانب واحد وهو هذه القوانين الأجنبية فقط وكفرها واضح جدًّا، نتنبه لهذا فقط بينما دخل الكفر بلاد المسلمين منذ قرون طويلة وعديدة جدًّا، والناس في غَفلة من هذه الحقيقة، فضلاً عن هذه المسائل التي يعتبرونها طفيفة.
· لذلك فهذا الاحتفال يَكفي أن تعرفوا أنه مُحْدَثٌ ليس من الإسلام في شيء، ولكن يجب أن تعلم أنّ الإصرار على استحسان هذه البدعة -أخشى ما أخشاه- أن يدخل المصر على ذلك في جملة: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ﴾، وتعلمون أن هذه الآية لَمَّا نزلت وتلاها النبي صلى الله عليه وسلم كان في المجلس عدي بن حاتم الطائي، وكان من العرب القليلين الذين قرؤوا وكتبوا، وبالتالي تَنَصَّرُوا فكان نصرانيًّا فلما نزلت هذه الآية؛ لم يتبين له المقصد منها، فقال: يا رسول الله! كيف يقول ربنا عن النصارى: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ﴾؟! ما اتخذنا أحبارنا أربابًا من دون الله -عز وجل؟! كأنه فهم أنهم اعتقدوا بأحبارهم ورهبانهم أنهم يخلقون ويرزقون مع الله.. إلى غير ذلك من الصفات التي تَفَرَّدَ الله بها عز وجل دون سائر الخلق.
· فبين له الرسول عليه الصلاة والسلام بأن هذا المعنى الذي خَطَرَ في بالك ليس هو المقصودَ بهذه الآية، وإن كان هو معنى حقًّا؛ فلا يجوز للمسلم أن يعتقد أنّ إنسانًا ما يخلق ويرزق، لكن المعنى هنا أدق من ذلك فقال له: (ألستم كنتم إذا حرموا لكم حلالاً؛ حرمتموه، وإذا حللوا لكم حرامًا؛ حللتموه؟)، قال: أما هذا فقد كان، فقال عليه الصلاة السلام: (فذاك اتخاذكم إياهم أربابًا من دون الله).
· لذلك: فأمر استحسان البدعة خطير جدًّا، خصوصًا إذا عُلم أنه لم يكن من عمل السلفِ الصالحِ، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه، ومن وضع نفسه في زمرة الأحبار والرهبان الذين اتخذوا أربابًا من دون الله -عز وجل، والذين أيضًا يقلدونهم فهو من الذين نزل في صددهم هذه الآية أو في أمثالهم: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ﴾.
· والغرض من هذا أنه لا يجوز للمسلم أن يقول كما نسمع دائمًا: الخلاف شكليّ، نقول: لا الخلاف جذريّ وعميق جدًّا؛ لأننا ننظر إلى أن هذه البدعة -وغيرها- داخلة أولاً في عموم الحديث السابق: (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)، وثانيًا ننظر إلى أن موضوع البدعة مرتبط بالتشريع الذي لم يأذن به الله عز وجل كما قال تعالى: ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ ﴾.
· وهذا كله يقال إذا وقف الأمر فقط عند ما يُسمى بالاحتفال بمولده عليه الصلاة السلام بمعنى قراءة قصة المولد، أما إذا انضم إلى هذه القراءة أشياء وأشياء كثيرة جدًّا منها؛ مثل أنهم يقرؤون من سيرته عليه الصلاة والسلام قصة المولد أو ما لا يَصِحُّ نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وثانيًا يذكرون من صفاته عليه الصلاة السلام فيما يتعلق بولادته ما يشترك معه عامة البشر، بينما لو كان يجب الاحتفال أو يجوز على الأقل بالرسول صلى الله عليه وسلم؛ لكان الواجب أن تُذكر مناقبه عليه الصلاة والسلام وأخلاقه وجهاده في سبيل الله وقلبه لجزيرة العرب من الشرك بالله عز وجل إلى التوحيد، ومن الأخلاق الجاهلية الطالحة الفاسدة إلى الأخلاق الإسلامية.
· كان هذا هو الواجبَ أن يَفعله من يحتفل، لكنهم مَشَوْا على نمط من قراءة الموارد، لا سيما إلى عهد قريب، فيقولون: حملت به أمه تسعة أشهر قمريّة. ما الفائدة من ذكر هذا الخبر؟ وكل إنسان منا تحمل به أمه تسعة أشهر قمرية، القصد هل أفضل البشر وسيد البشر عليه الصلاة والسلام يذكر منه هذه الخصلة التي يَشترك فيها حتى الكافر، فإذا خرج القصد من المولد خرج عن هدفه بمثل هذا الكلام الساقط الواهي. وبعضهم يذكر بأنه ولد مختونًا، وهذا من الأحاديث الضعيفة والموضوعة، فهكذا يمدح الرسول.
· فنقول: إن الاحتفال في أصله لو كان ليس فيه مخالفة سوى أنه مُحْدَثٌ لكفى -وجوبًا- الابتعاد عنه للأمرين السابقين؛ لأنه محدث، ولأنه تشريع، والله عز رجل لا يرضى من إنسان أن يَشْرَعَ للخلق ما يشاء، فكيف وقد انضم إلى المولد -على مر السنين- أشياء وأشياء مما ذكرنا ومما يطول الحديث فيما لو استعرضنا الكلام على ذلك.
· فحسب المسلم -إذن- التذكير هنا والنصيحة أن يعلم أن أيّ شيء لم يكن في عهد الرسول وعهد السلف الصالح، فمهما زخرفه الناس، ومهما زينوه، ومهما قالوا هذا في حب الرسول وأكثرهم كاذبون؛ فلا يحبون الرسول إلا باللفظ والغناء والطرب ونحو ذلك، مهما زخرفوا هذه البدع؛ فعلينا نحن أن نظل متمسكين بما عليه سلفنا الصالح رضي الله عنهم أجمعين.
· وتذكروا معنا بأن من طبيعة الإنسان المغالاة في تقدير الشخص الذي يحبه لا سيما إذا كان هذا الشخص لا مثل له في الدنيا كلها، ألا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن طبيعة الناس الغلو في تعظيم هذا الإنسان، إلا الناس الذين يأتمرون بأوامر الله عز وجل، ولا يعتدون، فهم يتذكرون دائمًا وأبدًا مثل قوله تبارك وتعالى: ﴿ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ﴾.
· فإذا كان الله عز وجل قد اتخذ محمدًا صلى الله عليه وسلم نبيا، فهو قبل ذلك جَعَلَه بشرًا سويًّا، ولم يجعله ملكًا خُلق من نور كما يزعمون، وإنما هو بشر قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ ﴾، وهو نفسه أكد ذلك في غير ما مناسبة، فقال: (إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت؛ فذكروني). وقال لهم مرة: (لا ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله فيها، وإنما ضعوني حيث وضعني ربي عز وجل؛ عبدًا رسول).
· لذلك في الحديث المتفق عليه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم؛ إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله).
· فهذا الحديث تفسير للحديث السابق: (لا ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله به). فهو يقول: لا تمدحوني كما فعلت النصارى مع عيسى ابن مريم، كأن قائلاً يقول: كيف نمدحك يا رسول الله؟! قال: (إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)، ونحن حينما نقول في رسولنا صلى الله عليه وسلم: عبد الله ورسوله؛ فقد رفعناه ووضعناه في المرتبة التي وضعه الله عز وجل فيها؛ لن ننزل به عنها، ولم نصعد به فوقها، هذا الذي يريده رسول الله صلى الله عليه وسلم منا.
·
فضيلة الشيخ العلامة/ محمد ناصر الدين الألباني
إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
· مَن يهده الله؛ فلا مضل له، ومَن يُضللْ؛ فلا هادي له.
· وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
· ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾.
· ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾.
· ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾.
· أما بعد؛ فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
· وبعد..
· فقد بدا لي أن أجعل كلمتي في هذه الليلة -بديل الدرس النظامي- حول موضوع احتفال كثير من المسلمين بالمولد النبوي؛ وذلك قيامًا بواجب التذكير، وتقديم النصح لعامة المسلمين؛ فإنه واجب من الواجبات كما هو معلوم عند الجميع.
· وقد جرى عرف المسلمين من بعد القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية على الاحتفال بولادة النبي صلى الله عليه وسلم، وبدأ الاحتفال بطريقة وانتهى اليوم إلى طريقة، وليس يهمني في هذه الكلمة الناحية التاريخية من المولد، وما جرى عليه من تطورات؛ إنما المهم من كلمتي هذه أن نعرف موقفنا الشرعي من هذه الاحتفالات قديمها وحديثها.
· فنحن -معشر أهل السنة- لا نحتفل احتفال الناس هؤلاء بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكننا نحتفل احتفالاً من نوع آخر، ومن البديهي أنني لا أريد الدندنة حول احتفالنا نحن معشر أهل السنة، وإنما ستكون كلمتي هذه حول احتفال الآخرين.
· فنحن نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بالدين كاملاً وافيًا تامًّا، والدين هو كل شيء يتدين به المسلم، ويتقرب به إلى الله عز وجل، وليس ثَمَّةَ دين إلا هذا، ولا يمكن أن يكون شيء ما من الدين إلا إذا جاء به نبينا صلوات الله وسلامه عليه.
· أما ما أحدثه الناس بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لا سيما بعد القرون الثلاثة المشهود لها بالخيريّة؛ فلا شك ولا ريب أنه من محدثات الأمور، وقد علمتم جميعًا حكم هذه المحدثات من افتتاحية دروسنا كلها؛ حيث نقول فيها كما سمعتم آنفًا: (خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار).
· ونحن وإياهم مجمعون على أن هذا الاحتفال أمرٌ حادث لم يكن في عهده صلى الله عليه وسلم، بل ولا في عهد القرون الثلاثة كما ذكرنا آنفًا، ومن البديهي أن النبي صلى الله عليه وسلم في حياته لم يكن ليحتفل بولادته؛ ذلك أن الاحتفال بولادة إنسان ما إنما هي طريقة نصرانية مسيحية لا يعرفها الإسلام مطلقًا، فمن باب أولى أن لا يعرف ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن عيسى نفسه -الذي يحتفل بميلاده المدَّعون اتباعَه- لم يحتفل بولادته، مع أنها ولادة خارقة للعادة، وإنما الاحتفال بولادة عيسى عليه السلام من البدع التي ابتدعها النصارى في دينهم، وهي كما قال عز وجل: ﴿ ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ﴾.
· فربنا عز وجل ما شَرَعَ هذه البدع التي اتخذها النصارى؛ ومنها الاحتفال بميلاد عيسى، وإنما ابتدعوها من عند أنفسهم؛ فلذلك إذا كان عيسى لم يحتفل بميلاده ومحمد صلى الله عليه وسلم -أيضًا- لم يحتفل بميلاده، والله عز وجل يقول: ﴿ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ﴾، فهذا من جملة اقتداء نبينا بعيسى عليهما الصلاة والسلام، وهو نبينا أيضًا، ولكن نبوته نُسِخَتْ ورُفعت بنبوّة خاتم الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهما.
· ولذلك فعيسى حينما ينـزل في آخر الزمان -كما جاء في الأحاديث الصحيحة المتواترة- إنما يحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
· فإذن؛ محمد صلى الله عليه وسلم لم يحتفل بميلاده، وهنا يقول بعض المبتلين بالاحتفال غير المشروع الذي نحن في صدد الكلام عليه: محمد صلى الله عليه وسلم لم يحتفل بولادته.
· نقول: ولم يحتفل بولادته عليه الصلاة السلام بعد وفاته أحبّ الخلق من الرجال إليه، وأحب الخلق من النساء إليه؛ ذلكما أبو بكر وابنته عائشة رضي الله عنهما، فما احتفلا بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك الصحابة جميعًا والتابعون وأتباعهم وهكذا.
· إذن؛ لا يصح لإنسانٍ -يخشى الله ويقف عند حدود الله ويتعظ بقول الله عز وجل: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾- أن يقول: الرسول ما احتفل؛ لأن هذا يتعلق بشخصه.
· نقول له: ولم يحتفل أحد من أصحابه به عليه الصلاة السلام، فمن الذي أحدث هذا الاحتفال بعد هؤلاء الرجال الذين هم أفضل الرجال ولن تلد النساء أمثالهم إطلاقًا؟!
· إن التابعين لم يحتفلون هذا الاحتفال أو ذاك، وإنما كان احتفالهم من النوع الذي سأشير إليه إشارة سريعة كما فعلت آنفًا، فهذا يكفي لأن يعرف المسلم أنّ القضية ليست قضيةَ عاطفة جانحة لا تعرف الحدود المشروعة، وإنما هو الاتباع والاستسلام لحكم الله عز وجل، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ﴾، فرسول الله ما احتفل؛ إذن نحن لا نحتفل.
· فإن قالوا: ما احتفل لشخصه.
· نقول: ما احتفل أصحابه أيضًا بشخصه من بعده، فأين تذهبون؟! كل الطرق مسدودة أمام الحجة البينة الواضحة التي لا تُفسح مجالاً مطلقًا للقول بحسْن هذه البدعة.
· وإن مما يبشر بالخير أن بعض الخطباء والوعّاظ بدؤوا يضطرون ليعترفوا بهذه الحقيقة، وهي أن الاحتفال بالمولد بدعة وليس من السنة، ولكنهم يحتاجون إلى شيء من الشجاعة العلميّة التي تتطلب الوقوف أمام عواطف الناس الذين عاشوا هذه القرون الطويلة وهم يحتفلون، فهؤلاء كأنهم يَجْبُنُون -أو يضعفون- أن يَصدعوا بالحق الذي اقتنعوا به. فتجد أحدهم يقول: صحيح أن هذا الاحتفال ليس من السنة، ولم يحتفل الرسول ولا الصحابة ولا السلف الصالح، ولكنّ الناس اعتادوا أن يَحتفلوا، ويبدو أن الخلاف فقهي!
· هكذا يُبرر القضية، ويقول: الخلاف شكليّ، لكن الحقيقة أنهم انتبهوا أخيرًا إلى أن هذا المولد خرج عن موضوع الاحتفال بولادة الرسول صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحيان؛ حيث يتطرف الخطباء أمورًا ليس لها علاقة بالاحتفال بولادة الرسول صلى الله عليه وسلم.
· وأذكر أمرًا مهمًّا جدًّا طالما غفل عنه جماهير المسلمين، حتى بعض إخواننا الذين يمشون معنا على الصراط المستقيم وهو الابتعاد عن التعبد إلى الله عز وجل بأيّ بدعة، فقد يَخفى عليهم أن أي بدعة يتعبد المسلم بها ربه عز وجل هي ليست من صغائر الأمور، ومن هنا نعتقد أن تقسيم البدعة إلى محرمة وإلى مكروهة يعني كراهة تنـزيهية، وهذا التقسيم لا أصل له في الشريعة الإسلامية، كيف وهو مُصادم مصادمة جلية للحديث الذي تسمعونه دائمًا وأبدًا: (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)؟!
· فليس هناك بدعة لا يستحق صاحبُها النار، ولو صح ذلك التقسيم؛ لكان الجواب: ليس كل بدعة يستحق صاحبها دخول النار، لم؟ لأن ذاك التقسيم يجعل البدعة المحرمة هي التي تؤهل صاحبها لدخول النار، والبدعة المكروهة تنزيهًا لا تؤهل صاحبها للنار، وإنما الأَوْلَى تركها والإعراض عنها. وهنا الشاهد من إشارتي السابقة التي لا ينتبه لها الكثير، والسر في هذا أن كل بدعة -كما قال عليه الصلاة والسلام- ضلالة، وأنه من باب التشريع في الشرع الذي ليس له حق التشريع إلا رب العالمين تبارك وتعالى، فإذا انتبهتم لهذه النقطة؛ عرفتم حينذاك لماذا أطلق عليه الصلاة والسلام على كل بدعة أنها في النار -أي: صاحبها-؛ ذلك أن المبتدع حينما يَشْرَعُ شيئًا من نفسه فكأنه جعل نفسه شريكًا مع ربه تبارك وتعالى، والله عز وجل يأمرنا أن نوحِّده في عبادته وفي تشريعه، فقال: ﴿ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾، أندادًا في كل شيء، ومن ذلك التشريع.
· وهنا يظهر الشباب المسلم الواعي المثقف الذي انفتح له الطريق إلى التعرف على الإسلام الصحيح من المفتاح لا إله إلا الله، والتوحيد يستلزم -كما بيَّن ذلك بعض العلماء قديمًا وشرحوا ذلك شرحًا بينًا، ثم تبعهم بعض الكتاب المعاصرين- أن يُفْرِدَ المسلم ربه عز وجل بالتشريع، ويَستلزم أن لا يَشْرَعَ أحد مع الله عز وجل أمرًا ما، سواء أكان صغيرًا أم كبيرًا جليلاً أم حقيرًا؛ لأن القضية ليست بالنظر إلى الحكم هو صغير أم كبير، وإنما إلى الدافع إلى هذا التشريع، فإن كان هذا التشريع صَدَرَ من الله؛ تَقَرَّبَنَا به إلى الله، وإن كان صدر من غير الله عز وجل؛ نَبَذْناه وشرعته نبذ النواة، ولا يجوز للمسلم أن يتقرب إلى الله عز وجل بشيء من ذلك، وأولى أنه لا يجوز للذي شَرَعَ ذلك أن يَشْرَعَه، وأن يستمر على ذلك وأن يستحسنه.
· هذا النوع من إفراد الله عز وجل بالتشريع هو الذي اصطلح عليه اليوم بعض الكتاب الإسلاميين بتسميته بـ "الحاكمية لله عز وجل وحده"، لكن مع الأسف الشديد أخذ شبابنا هذه الكلمة، وهي كلمة ليست مُبَيَّنَةً ولا مُفَصَّلَةً ولا تشتمل على كل شِرْعَةٍ أو كل أمر أُدْخِل في الإسلام وليس من الإسلام في شيء، أن هذا الذي أَدخَل البدعة قد شارك الله عز وجل في هذه الخصوصية، ولم يوحد الله -عز وجل- في تشريعه؛ ذلك أن السبب -فيما أعتقد- في عدم وضوح هذا المعنى الواسع لجملة أن "الحاكمية لله عز وجل" هو أن الذين كتبوا حول هذا الموضوع -أقولها مع الأسف الشديد- ما كتبوا ذلك إلا وهم قد نبّهوا على الضغوط الكافرة التي تأتي بهذه التشريعات، وهذه القوانين من بلاد الكفر والضلال. ولذلك فهم حينما دعوا المسلمين وحاضروا وكتبوا دائمًا وأبدًا حول هذه الكلمة الحقّة، وهي أنّ الحاكميّة لله عز وجل، أقول: كان كلامهم دائمًا ينصب ويدور حول رفض هذه القوانين الأجنبية التي تَرِدُ إلينا من بلاد الكفر، كما قلنا: لأن ذلك إدخال في الشرع ما لم يَشْرَعْه الله عز وجل.
· هذا كلام حق لا شك ولا ريب، ولكنّ قصدي أن أَلفت نظركم أن هذه القاعدة المهمة -وهي أن الحاكمية لله عز وجل- لا تنحصر فقط برفض هذه القوانين التي تَرِدُ إلينا من بلاد الكفر، بل تشمل هذه الكلمة كل شيء دخل في الإسلام سواء أكان وافدًا إلينا أو نابعًا منا، ما دام أنه ليس من الإسلام.
· فهذه النقطة بالذات هي التي يجب أن نتنبه لها، وأن لا نتحمس فقط لجانب واحد وهو هذه القوانين الأجنبية فقط وكفرها واضح جدًّا، نتنبه لهذا فقط بينما دخل الكفر بلاد المسلمين منذ قرون طويلة وعديدة جدًّا، والناس في غَفلة من هذه الحقيقة، فضلاً عن هذه المسائل التي يعتبرونها طفيفة.
· لذلك فهذا الاحتفال يَكفي أن تعرفوا أنه مُحْدَثٌ ليس من الإسلام في شيء، ولكن يجب أن تعلم أنّ الإصرار على استحسان هذه البدعة -أخشى ما أخشاه- أن يدخل المصر على ذلك في جملة: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ﴾، وتعلمون أن هذه الآية لَمَّا نزلت وتلاها النبي صلى الله عليه وسلم كان في المجلس عدي بن حاتم الطائي، وكان من العرب القليلين الذين قرؤوا وكتبوا، وبالتالي تَنَصَّرُوا فكان نصرانيًّا فلما نزلت هذه الآية؛ لم يتبين له المقصد منها، فقال: يا رسول الله! كيف يقول ربنا عن النصارى: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ﴾؟! ما اتخذنا أحبارنا أربابًا من دون الله -عز وجل؟! كأنه فهم أنهم اعتقدوا بأحبارهم ورهبانهم أنهم يخلقون ويرزقون مع الله.. إلى غير ذلك من الصفات التي تَفَرَّدَ الله بها عز وجل دون سائر الخلق.
· فبين له الرسول عليه الصلاة والسلام بأن هذا المعنى الذي خَطَرَ في بالك ليس هو المقصودَ بهذه الآية، وإن كان هو معنى حقًّا؛ فلا يجوز للمسلم أن يعتقد أنّ إنسانًا ما يخلق ويرزق، لكن المعنى هنا أدق من ذلك فقال له: (ألستم كنتم إذا حرموا لكم حلالاً؛ حرمتموه، وإذا حللوا لكم حرامًا؛ حللتموه؟)، قال: أما هذا فقد كان، فقال عليه الصلاة السلام: (فذاك اتخاذكم إياهم أربابًا من دون الله).
· لذلك: فأمر استحسان البدعة خطير جدًّا، خصوصًا إذا عُلم أنه لم يكن من عمل السلفِ الصالحِ، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه، ومن وضع نفسه في زمرة الأحبار والرهبان الذين اتخذوا أربابًا من دون الله -عز وجل، والذين أيضًا يقلدونهم فهو من الذين نزل في صددهم هذه الآية أو في أمثالهم: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ﴾.
· والغرض من هذا أنه لا يجوز للمسلم أن يقول كما نسمع دائمًا: الخلاف شكليّ، نقول: لا الخلاف جذريّ وعميق جدًّا؛ لأننا ننظر إلى أن هذه البدعة -وغيرها- داخلة أولاً في عموم الحديث السابق: (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)، وثانيًا ننظر إلى أن موضوع البدعة مرتبط بالتشريع الذي لم يأذن به الله عز وجل كما قال تعالى: ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ ﴾.
· وهذا كله يقال إذا وقف الأمر فقط عند ما يُسمى بالاحتفال بمولده عليه الصلاة السلام بمعنى قراءة قصة المولد، أما إذا انضم إلى هذه القراءة أشياء وأشياء كثيرة جدًّا منها؛ مثل أنهم يقرؤون من سيرته عليه الصلاة والسلام قصة المولد أو ما لا يَصِحُّ نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وثانيًا يذكرون من صفاته عليه الصلاة السلام فيما يتعلق بولادته ما يشترك معه عامة البشر، بينما لو كان يجب الاحتفال أو يجوز على الأقل بالرسول صلى الله عليه وسلم؛ لكان الواجب أن تُذكر مناقبه عليه الصلاة والسلام وأخلاقه وجهاده في سبيل الله وقلبه لجزيرة العرب من الشرك بالله عز وجل إلى التوحيد، ومن الأخلاق الجاهلية الطالحة الفاسدة إلى الأخلاق الإسلامية.
· كان هذا هو الواجبَ أن يَفعله من يحتفل، لكنهم مَشَوْا على نمط من قراءة الموارد، لا سيما إلى عهد قريب، فيقولون: حملت به أمه تسعة أشهر قمريّة. ما الفائدة من ذكر هذا الخبر؟ وكل إنسان منا تحمل به أمه تسعة أشهر قمرية، القصد هل أفضل البشر وسيد البشر عليه الصلاة والسلام يذكر منه هذه الخصلة التي يَشترك فيها حتى الكافر، فإذا خرج القصد من المولد خرج عن هدفه بمثل هذا الكلام الساقط الواهي. وبعضهم يذكر بأنه ولد مختونًا، وهذا من الأحاديث الضعيفة والموضوعة، فهكذا يمدح الرسول.
· فنقول: إن الاحتفال في أصله لو كان ليس فيه مخالفة سوى أنه مُحْدَثٌ لكفى -وجوبًا- الابتعاد عنه للأمرين السابقين؛ لأنه محدث، ولأنه تشريع، والله عز رجل لا يرضى من إنسان أن يَشْرَعَ للخلق ما يشاء، فكيف وقد انضم إلى المولد -على مر السنين- أشياء وأشياء مما ذكرنا ومما يطول الحديث فيما لو استعرضنا الكلام على ذلك.
· فحسب المسلم -إذن- التذكير هنا والنصيحة أن يعلم أن أيّ شيء لم يكن في عهد الرسول وعهد السلف الصالح، فمهما زخرفه الناس، ومهما زينوه، ومهما قالوا هذا في حب الرسول وأكثرهم كاذبون؛ فلا يحبون الرسول إلا باللفظ والغناء والطرب ونحو ذلك، مهما زخرفوا هذه البدع؛ فعلينا نحن أن نظل متمسكين بما عليه سلفنا الصالح رضي الله عنهم أجمعين.
· وتذكروا معنا بأن من طبيعة الإنسان المغالاة في تقدير الشخص الذي يحبه لا سيما إذا كان هذا الشخص لا مثل له في الدنيا كلها، ألا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن طبيعة الناس الغلو في تعظيم هذا الإنسان، إلا الناس الذين يأتمرون بأوامر الله عز وجل، ولا يعتدون، فهم يتذكرون دائمًا وأبدًا مثل قوله تبارك وتعالى: ﴿ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ﴾.
· فإذا كان الله عز وجل قد اتخذ محمدًا صلى الله عليه وسلم نبيا، فهو قبل ذلك جَعَلَه بشرًا سويًّا، ولم يجعله ملكًا خُلق من نور كما يزعمون، وإنما هو بشر قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ ﴾، وهو نفسه أكد ذلك في غير ما مناسبة، فقال: (إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت؛ فذكروني). وقال لهم مرة: (لا ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله فيها، وإنما ضعوني حيث وضعني ربي عز وجل؛ عبدًا رسول).
· لذلك في الحديث المتفق عليه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم؛ إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله).
· فهذا الحديث تفسير للحديث السابق: (لا ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله به). فهو يقول: لا تمدحوني كما فعلت النصارى مع عيسى ابن مريم، كأن قائلاً يقول: كيف نمدحك يا رسول الله؟! قال: (إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)، ونحن حينما نقول في رسولنا صلى الله عليه وسلم: عبد الله ورسوله؛ فقد رفعناه ووضعناه في المرتبة التي وضعه الله عز وجل فيها؛ لن ننزل به عنها، ولم نصعد به فوقها، هذا الذي يريده رسول الله صلى الله عليه وسلم منا.
·